احتل النهام وهو منشد أغاني البحر والغوص مكانة خاصة بين طاقم السفينة الذي لم يكن عدد افراده ليقل عن اربعين شخصا في الرحلة الواحدة ويضم الى جانب النهام السيوب والرضفاء واليلايس والتبابة والمجدمي والبندار والوانس. وقد وجد النهام الذي لم يكن لأية رحلة غوص ان تكتمل من دونه اهتماما وتقديرا كبيرين في نفوس البحارة لما له من تأثير عميق عليهم وعلى وتيرة العمل وحسن سيره في عرض البحر، فقد كان يؤدي دورا بالغ الأهمية في التخفيف من وطأة الغربة التي يعاني منها البحارة بعيدا عن عائلاتهم وعن ديارهم، وكذلك التعب والمعاناة اليومية الشاقة التي يكابدونها، بل ويتجاوز ذلك الى صقل النفوس وتهيئة الهمم وشحذ العزائم ما يحفز افراد السفينة على التنافس في أداء الواجبات وممارسة الأعمال لا سيما وأنه يبدأ بالغناء منذ تحرك السفينة من الشاطئ الى وسط البحر وفي اثناء التجديف ودفع الشراع والتوقف في المغاصات وانتشال المحار وفلقه ما يجعل اغانيه وأداءه الحركي المصاحب يحقق نتائج ايجابية في تسريع وتيرة العمل، ومن هنا فقد كان نواخذة السفن يحرصون اشد الحرص على اصطحاب النهامين معهم في موسم الغوص ويخصصون لهم في كثير من الاحيان حصة من الأرباح نظيرا لذلك. فالنهام كما تشير المصادر هو المغني في السفينة، و”النهمة” نوع من الغناء البحري يتم فيه تأدية أهازيج غنائية يعتمد فيها النهام على حنجرته التي تتميز بالقوة والقدرة على تنويع اللحن الذي ينسجم مع حركة الجسم واليدين والتعبير بالوجه والملامح. أنواع النهمات وتنقسم النهمة في منطقة الخليج العربي الى اقسام عدة وذلك حسب نوع العمل الذي تنشد مصاحبة له حيث يمتلك كل منها تأثيرا خاصا وهدفا محدودا منها. ومن هذه النهمات تلك الخاصة ب “الخطفة” أي رفع الشراع حتى يصل اعلى الدقل ويسمي “القب” وهو ما يحتاج من البحارة الى بذل طاقة ومجهود كبيرين، وكلما ارتفع الشراع باعا انزلوه ذراعا، فترافق هذا العمل نهمة خاصة تدفع على الحماس في النفوس وبذل اقصى جهد ممكن من قبل البحارة ويرافقها تصفيق قوي بالأيدي، ويدفع هذا الجو الحماسي افراد السفينة الى متابعة رفع الشراع من دون كلل أو تقاعس، وينشد النهام في اثناء قيام الطاقم بهذا العمل استعدادا للابحار النهمة الخاصة بخطف الشراع: “دار الهوى شامي يا بو عبدالله سنيارنا سافر وتوكل بالله”. وتبدأ كل الخطفات بالافتتاحية التالية: “هو.. لو.. يا رب صل على احمد.. يا الله بدينا.. يا الله بدينا” ثم تأتي الاهزوجة المصاحبة لعملية سحب الحبال وهي: “هو.. لو.. هولو.. هولو”. وللخطفة فروع مختلفة ابرزها خطفة “العود” وخطفة “دواري الغلمي” وخطفة “الجيب” وخطفة “الكابية” وخطفة “البومية” وخطفة “الشومندي”، ويغني النهام ايضا عند خطف الشراع استعدادا للابحار: “وردت شغل اليوازر وركبت في السفن ياسر يا من توكل على الله يا ناس ما هو خاسر كل الملا بشروها ابشارتيه مج لنير مج لنير غدر بي وعذر بناس كثيرة” وهناك ايضا نغمة خاصة بالمجداف تسمى “اليامال” وهي نوعان خفيفة ومتوسطة وتنشد عند سكون الرياح لتحث البحارة على التجديف فيردد فيها المجدفون عبارة “يا مال” من ضمن مجموعة من الاهازيج كقولهم: “أي يا مال يسلام هيلي يو يا سلام ربي سهل يا سلام هيلي يو سهل لنا يا سلام هي يا الله هيلي يو” يوجد ايضا نهمة تنشد بترديد موال سباعي تصاحبه الايقاعات وهمهمات البحارة ويقوم بغنائه عدد من النهامين، فكلما انتهى احدهم من الموال بدأ الآخر موالا جديدا، وهناك “الجرحان”، حيث ينشد النهام احد المواويل التي يردد فيها البحارة الآهات بعد كل شطر بحيث يبدو الغناء وكأنه حوار بين النهام وبين المجموعة ليبدأ البحارة بعد ذلك بترديد الشطر السابع ويسمى “القفلة” بصورة جماعية استعدادا للدخول في الفصل الثاني من الغناء، اما نهمة “الشرت” وهو حبل مهم من حبال الشراع ونهمة “الجيب” أي انزال الدقل ووضعه داخل الكيس فلكل منهما صفقة خاصة ترافق الاغنية ومن اقسام النهمة الاخرى نهمة “الخراب” وهو حبل طويل يمسك بالسفينة في اثناء الغوص وفي نهايته “السن” وهي قطعة مثلثة من الحجارة فيها قطعة من الحديد كالعمود لتمسك بقاع البحر ونهمة “الخراب” على نوعين يدعى الأول “الدواري” ويرافقه تصفيق حماسي والثاني واسمه “بريخة صدره”، وهناك نهمات خاصة بعمل اليلاليس في اثناء فلق المحار واخراج اللآلئ منها وتقديمها الى النوخذة الذي يقوم بفرزها حسب النوع واللون والحجم والوزن، فيعمد النهام الى اضفاء لمسة من الطرب والتشجيع في هذا الجو لاتمام المهام وينشد: “غاب شادي غاب اشدادي”. وتردد المجموعة: “اليه اليه.. قوة.. قوة”. ومن النهمات الاخرى موال “الحدادي”، وهو احد أنواع الغناء الذي يؤديه البحارة ليستعيدوا نشاطهم، وغالبا ما يرافقه التصفيق حيث ينقسم الى اقسام متنوعة حسب الايقاع والأدوار وهذه الاقسام هي الشبيثي والياملي والسميلي وجفت الشراع والحدادي الحساوي والحدادي والحجازي والحدادي المسروق والحدادي السنكي والحدادي الفجري ولمة الجيب، وهي جميعها من لغة اهل البحر. اما النوع السائد في دولة الامارات فهو نهمة “الخراب” وعادة ما يبدأ الغناء بترديد كلمة “يا ملية” لمرات عديدة، ثم يبدأ النهام بقوله “الصلاة والسلام عليك يا رسول الله” فترد المجموعة “يا الله” فيقول النهام “هي يا هيه” فترد المجموعة ايضا “يا الله” ويختمها النهام بقوله “يا رحمن يا رحيم” ويبدأ بعد ذلك بالغناء: “يا ربنا بالطايف عبدك من الذنب خايف عبدك وتغفر ذنوبه يا غافر الذنب يا الله”. آخر النهامين النهام “بو سماح” وهو آخر نهام في الامارات حيث توفي في العام 1995 ان “صوت النهام لا ينقطع عن الغناء منذ استعداد “المحمل” للانطلاق نحو الهيرات، فحين يقوم البحارة برمي السفن في البحر لتتغطس في الماء لمدة يومين أو ثلاثة ايام لكي يلين “اللوح” الخشبي الذي تعرض للشمس لمدة طويلة وأصبح شديد الصلابة، ينشد النهام والبحارة معه: “ يا بحر رد في بحورك يا بحر يكفينا شرورك” وعند دهن السفن بمادة “الصل” لحمايتها من التآكل ينشد النهام: “آه وامنسولي آه وامنسولي شلة لبدوي وراح وامنسولي ويذكر “بو سماح” انه يتم تجهيز المحمل بعد ذلك بشكل جماعي بكل ما تستلزمه الرحلة وفي اثناء ذلك يردد النهام الاهازيج ومنها: “هو يا الله يا الله بالولم هو يا الله بالولم هو يا الله بالولم يدور خلوني بأبدع فن شلوبي عن محبوبي وذنوبي على من وذنوبي على من” وفي اثناء رفع الشراع للابحار يشعر البحارة بأحاسيس ومشاعر متباينة ما بين الخوف والأمل والرجاء والهم لى فراق الديار وهنا ينشد النهام: “دامنه يا دامنه البحر لا تامنه” وفي اختراق السفينة لعباب البحر وتسارع حركة المجاديف في مواجهة الامواج العاتية تتعالى الاصوات مرددة مع النهام الذي يحثهم على بذل المزيد من الجهد للوصول سريعا الى مغاصات اللؤلؤ والهيرات.. ينشد النهام والبحارة تردد من خلفه: “يا مال يا مال أووه يا مال يا عمة الخير لا تسعين بالفرقة بيني وبين الأهل لا بد من الفرقة أول شبابي بليت بعمة قشرة كذلك الدول وان طاح الجنوب اشرا”. ويشارك النهام البحارة جميع الصعوبات التي تعترض مسارهم محذرا اياهم مما قد يواجههم من مصاعب وأنواء، فإذا جاءت رياح الكوس فعليهم ربط الاشرعة والايمان بالله والاعتماد عليه وينشد لهم: “هب كوس ومطلعي شلي نوخذانا يصيح ويصلي يدعي يا رب تنجينا” ولدى القاء السن ينشد النهام: “يا الله بدينا عزيت يا من له الملك يا عالم بالأحوال”. ويردد وراءه الغواصة والسيوب بصوت واحد: آآآآه، وهذه النهمة تسمى “التقصيرة” وهي خاصة بالخراب ومراحل استخدامه والقائه في قاع البحر. وهناك ألحان ونهمات “للصريدان”، وهو مطبخ السفينة ويتكون من “كوار” وهو الموقد الكبير الذي يشوى عليه السمك ويطهى الطعام فكلما تم نقله من مكان الى آخر على سطح السفينة انشد النهام: “صريدان ماله خانة غير الشوي والدخانة” وعند حمل المحار بوساطة “الجفر” ينشد: “بتينا.. بتينا.. بتينا يا زعوله بتينا.. بتينا.. بتينا غم على الحاسدين”. وبعد الغروب والانتهاء من العمل اليومي تبدأ جلسات السمر ويسعى فيها النهام للترويح عن البحارة الذين تعتريهم في تلك اللحظات مشاعر الحنين الى الأهل والاصدقاء فينشد: “هيه هييه لي يا رب صلي على احمد يا رب صلي على احمد خير المنازل محمد هيلي هيلي خير المنازل محمد انصلي كل يوم بليله مريت على الباب انت مقصودي يا دارز العود.. بالعودي لقد احتل النهام مكانة وجدانية عالية في نفوس رفاق الرحلة الشاقة لما كان لصوته وانشاده من اثر كبير في تخفيف مشاعر الألم والفرقة عليهم والى جانب ذلك كان يتلو القرآن ويرتفع صوته بالأذان كما يقوم ببعض الأعمال الأخرى كأن يكون غيصا أو سيبا وكان ملما بالقراءة والكتابة، وكان النوخذة يستعين به في تسجيل حسابات السفينة لذلك فقد كان النهام عنصرا حاضرا في مختلف تفاصيل حياة البحارة على متن سفينة الغوص ليكون بذلك صوت ليالي ونهارات البحر، ويحلو للبعض من أهل الامارات ان يطلق على النهام ديك المركب أو ديك السفينة والمحمل، فإليه يعود الفضل في بث الصحو والمرح والحياة في رحلات البحارة الغائبين وقتا طويلا في غياهب الماء الغامضة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق